الرهبانيات المارونيّة انكفاء أم انتظام تحت عباءة بكركي؟
حبيقة: نحن أمناء على تراث مار مارون التراكمي
لم يدرك القديس مارون الذي التحف العراء ناسكاً في جبل قورش يقارع الثواني بالصلاة والتأمل أن تلاميذه والمؤمنين الذين تحلّقوا حوله سوف ينتظمون في جماعة كنسية بقيادة البطريرك الاول يوحنا مارون (سنة 685)، ولم يسع لذلك.
تميزت الكنيسة المارونية بأنها كنيسة رهبانية حيث التفّ أبناؤها العلمانيون حول ابائها من كهنة ورهبان ومكرسين، وكانت شراكة روحية وإجتماعية. تلاميذ مار مارون (توفي عام 410) الذين زرعوا الجبال والوديان كنائس ومحابس وأديار خلال قرون عدة عرفوا للمرة الاولى إطاراً رهبانياً منظّماً عام 1695، نتيجة لعمل تجديدي رهباني قام به ثلاثة شبان أتَوا من حلب هم جبرائيل حوا، عبدالله قراعلي، ويوسف البتن.
اليوم للموارنة رهبانيات حبرية تتّبع الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان وهي الرهبنة اللبنانية المارونية والرهبنة المريمية المارونية والرهبنة الانطونية وهناك رهبانيات نسائية وجمعيات على غرار جمعية “المرسلين اللبنانيين الموارنة – الكريمين” تابعة للبطريركية المارونية.
الرهبانيات زخم روحي ورافعة مجتمعية وقدوة نضالية
شكّلت هذه الرهبانيات زخماً روحياً ورافعة مجتمعية (خصوصاً في الشق التربوي والثقافي والاقتصادي) وقدوة نضالية للجماعة المارونية في سبيل لبنان الكيان مساحة الحرية والتعددية الذي إحتضن الموارنة منذ نشأتهم. لقد كانت الكنيسة برهبانياتها رؤيوية وسعت الى ترسيخ الماروني في أرضه وبناء شخصيته على ركيزتين إيمانية تعتمد على الصلاة وعيشة المحبة وثقافية تعتمد على التعليم وعلى فتح آفاق فكرية. خير دليل المجمع اللبناني الاوّل في سيدة اللويزة الذي عقد عام 1736 وأقرّ مجانية التعليم وإلزاميته للبنات والشبّان. كما ان الرهبانيات وضعت دوماً كل طاقاتها في خدمة الجماعة وخير مثال قيام الأب العامّ للرهبنة اللبنانية المارونية إغناطيوس داغر (1913-1929) بِرَهن كل ممتلكات الرهبانية للدولة الفرنسيّة، لقاء مليونَي فرنك ذهباً صُرِفتْ في إغاثة الفقراء والمحتاجين.
في التاريخ المعاصر كانت الرهبانيات طليعية في نضالها حيث شرعت أبوابها وأراضيها للاجئين الفلسطينيين بعد نكبة 1948. كما شكّلت ركيزة أساسية في مقاومة المجتمع المسيحي خلال حرب 1975 حيث كان رئيس الرهبنة اللبنانية المارونية الأباتي شربل قسيس عضواً مؤسساً وفاعلاً في “جبهة الحرية والانسان” التي تحولت في ما بعد إلى “الجبهة اللبنانية” ومن بعده الأباتي بولس نعمان. كما شرعت أديارها للمقاومة العسكرية التي توحدت في ما بعد تحت راية “القوات اللبنانية” وكذلك للمهجرين الذين توافدوا الى ما كان يعرف بالمناطق الشرقية. بالتزامن، كانت لجنة بحوث الكسليك حاضرة في دراسة الواقع اللبناني ومقاربة المواضيع الخلافية ومبادرة الى طرح الأفكار من دون خوف وتقديم الدراسات والإقتراحات العملية من أجل تثبيت النظام في لبنان.
فأين هي الرهبانيات اليوم في هذه المرحلة المصيرية المفصلية من تاريخ لبنان المهدد بوجوده؟ أين هي من الواقع الإقتصادي والإجتماعي الصعب لشعبها؟ أين الدراسات والأبحاث التي تعدها لمقاربة الأزمات التي تعصف بالبلاد؟
لا قيمة لوجود الرهبان من دون شعبهم
الراهب اللبناني الماروني الأب البروفيسور جورج حبيقة الرئيس الفخري لجامعة الروح القدس الكسليك يؤكد لـ”أحوال” أن كل يوم من تاريخ لبنان مفصلي ومرحلة عصيبة، فهذا تاريخ البشر مشاكل ومصاعب.
حبيقة الذي يشير الى أن أديار الرهبنة ترسم خريطة لبنان من مار مارون العاصي الى الرميش والقبيات، يلفت في الشق الإجتماعي الى أن كل دير يهتم بالواقع الإجتماعي لجمهور مؤمنيه، كما مركزياً الرهبانية شريكة مؤسِسَة في جمعية سوليدرتي Solidarity بإشراف السيد شارل الحاج الذي هو رجل ثقة وجميع أديارها مجندة في هذا الاطار، حيث يتم تأمين حصص غذائية دورياً لأكثر من 15 الف عائلة مارونية والرهبنة شريكة بالتنظيم والتوزيع على الناس. كما رممت الجمعية 750 منزلاً من أصل ألف تعمل عليهم في المناطق المتضررة من إنفجار بيروت.
كما يؤكد حبيقة أن الرهبنة إتخذت قراراً بأنه مهما ساء الوضع الإقتصادي لن يتم التخلي عن أي موظف في مؤسساتها أي الجامعة والمدارس والمستشفيات التي تحتضن 5 الاف عائلة وهي مستمرّة في الحسومات على الاقساط في مؤسساتها التربوية، مشدداً على أن هذه الخطوات تندرج وفق تقاليد الرهبنة ولا يمكن للرهبان إلا ان يكونوا أمناء لتراثهم الرهباني العريق منذ 1695 إذ في الأساس لا قيمة لوجودهم من دون شعبهم. أردف: “نحن أمناء على تراث مار مارون التراكمي الغني والعميق والانساني وهو غنى للبشرية ولكن يجب أيضاً ألا نجلد ذاتنا”.
البطريرك يقود سفينة الجماعة ولا سياسة مستقلة للرهبانيات عن بكركي
في الشق الوطني، يؤكد حبيقة أن هناك فرقاً كبيراً بين الحاضر وبين الماضي يوم تدخل الأباتي قسيس والأباتي نعمان مباشرة في العمل السياسي بسبب الفراغ الذي كان قائماً جراء طبيعة حضور البطريركية حينها في الأحداث والواقع الوطني، مضيفاً: “بينما مع البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير والبطريرك الحالي مار بشارة بطرس الراعي فإن البطريرك يقود سفينة الجماعة، ولا سياسة مستقلة للرهبانيات عن بكركي بل دعم كامل لها ولسياستها الوطنية وتوجهاتها. لبنان بلد الإنسان والحرية والتعددية وهذه ركائز النظرة المارونية له والتي وضعها البطريرك القديس الياس الحويك الذي حين أنشأ هذا البلد لم يصنعه من أجل الموارنة بل لكل طوائف لبنان كمختبر إنساني رائد للبشرية لأن المسيحية ليست تقوقعاً بل إنفتاح وتلاقٍ”.
لا مساومة على رسولية الكيان اللبناني
في وقت وجّهت جامعة الروح القدس الأبحاث العلمية لكلياتها المختلفة نحو دراسات عملية تحاول إيجاد الحلول لمختلف المشاكل التي تواجه المجتمع اللبناني بشكل عام والمسيحي بشكل خاص، يشير حبيقة تعليقاً على ما يحكى عن إعادة النظر بالنظام القائم الى أنهم مع اللامركزية الموسعة التي طرحها “الطائف” ولديهم تصور ودراسة مفصلة وجاهزون لمناقشتها متى طرح الأمر جدياً، ويؤكّد أن أهم شي لديهم هو الدفاع عن الصيغة اللبنانية فهم كرهبانية وكنيسة لا يمكن أن يساوموا على رسولية الكيان اللبناني.
يضيف: “النظام الطائفي إلغائي وإقصائي للآخر ونظامنا ليس طائفياً بل الصيغة اللبنانية تُشرِكُ جميع المكونات في الحكم. يطالبون بالغاء الطائفية السياسية كي يزيلوا أي حاجز أمام السعي المسعور للسيطرة على كل شيء وتهميش الآخر المختلف وإلغائه وهو حالة موجودة باللاوعي في هذا الشرق. فيما نحن خلقنا مع البطريرك الحويك مساحة إستثنائية لتلاقي المكونات المضطهدة أو القلقة في هذا الشرق”.
يتابع حبيقة: “جميع المكونات اللبنانية اليوم مع العيش معاً ومع فكرة لبنان بعدما كان هناك تردد لدى المكونات الاسلامية عام 1920 للإنضمام للبنان الكبير وهذا إنتصار لفكرة البطريرك حويك. الميثاق ثابت بالعيش معاً والصيغة متحركة، المبدأ الفلسفي للكيان اللبناني لا يتبدل بل يقوم على صيغة تشاركية. هذا قائم في الولايات المتحدة الأميركية حيث خلقوا مجلس شيوخ يضمّ عضوين عن كل ولاية مهما كان حجمها، إذ لا يمكن إعتماد الديمقراطية العددية في مجتمع غير متجانس. نحن متفقون على الوحدة مع الحفاظ على الذاتيات”.
يختم حبيقة: “نحن لسنا شعباً طارئاً على لبنان وأصبحت إدارة التنوع باللاوعي لدينا منذ القرن السابع. ما يطرح عن إلغاء الطائفية السياسية ومجلس شيوخ للأمور المصيرية بدعة، فمن يحدد هذه الأمور. لا معنى إن لم يكن مجلس الشيوخ لدينا كالنموذج الأميركي حيث هناك غرفتان تتكاملان مجلس النواب ومجلس الشيوخ وكل قرار يتخذه أحدهما يجب أن يوافق عليه الآخر، هكذا نخلق ضمانات. أما ما يطرح عن مجلس شيوخ في لبنان فهو مجوّف وغبي ولا معنى له. المطلوب نظام سياسي يحافظ على ذاتية كل جماعة من دون طغيان أي منها على الآخر”.
توحيد الجهود والرؤية على صعيد الشؤون الوطنية بين الرهبانيات تحت سقف البطريركية عامل قوة، لأن التضارب فيما بينهما عبر التاريخ إنعكس ضعفاً على الجماعة. لكن ثمة دينامية مفقودة في مواكبة الرهبانيات لمواقف بكركي ومنها على سبيل المثال طرح الحياد أخيراً، فلماذا لا يتم الإستفادة من طاقات هذه الرهبانيات وقدراتها التنظيمية وسعة إنتشارها لتدعيم ومواكبة مواقف الكنيسة المارونية؟ كما أن الأبحاث التي تعد يجب أن تقارب المسائل ليس فقط عمودياً بل أيضاً أفقياً اي عبر فتح آفاق وتقديم رؤية للشعب. كذلك، على الرهبانيات أن ترفع من مستوى جهوزيتها للخدمة الاجتماعية والاقتصادية لأن الأفق قاتم.
في ظل التشرذم السياسي لدى القادة الموارنة والذي يتخطى حدود المصالح الى خلافات على صعيد الرؤية للبنان ودوره ومستقبله، وفي ظل ضمور النخب الفكرية وتقاعسها عن لعب دورها الريادي كما كان الأمر في حقبة الجبهة اللبنانية التي ضمت كبار المفكرين كشارل مالك وإدوار حنين وجواد بولس وفؤاد فرام البستاني وسعيد عقل، الرهان والحمل ثقيلان على الرهبانيات ودورها الريادي، فهل تكون على قدرهما؟